الفـقه : أحكام الاضحية والذكاة
الفصل الأول : فى تعريف الأضحية وحكمها
الفصل الأول
في تعريف الأضحية وحكمها
الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد؛ تقرباً إلى الله عز وجل.
وهي من العبادات المشروعة في كتاب الله وسنة رسوله النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم وإجماع المسلمين.
فأما كتاب الله : فقد الله تعالي: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) وقال تعاليقُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162،163) .وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا )(الحج: 34).
وهذه الآية تدل على أن الذبح تقرباً إلى الله تعالي مشروع في كل ملة لكل أمة، وهو برهان بين على أنه عباده ومصلحة في كل زمان ومكان وأمَة.
وأما سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم : فقد ثبت مشروعية الأضحية فيها بقول النبي صلي الله عليه وسلم وفعله وإقراره، فاجتمعت فيها أنواع السنة الثلاثة: القول، والفعل، والتقرير.
ففي : ((الصحيحين)) عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين))(1). وفيهما أيضاً عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قسم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقال: يا رسول الله؛ صارت لي جذعة. فقال ((ضح بها))(2).
وفي (( الصحيحين)) أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ضحى النبي صلي الله عليه وسلم بكبشين أملحين ذبحهما بيده، وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما(3). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي . رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن(4).
وفي ((الصحيحين)) أيضاً عن جندب سفيان .البجلي قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضي صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: (( من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله)) هذا لفظ مسلم(5).
وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟فقال : كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ( الحديث ) . رواه ابن ماجه والترمذي وصححه(6).
وأما إجماع المسلمين على مشروعية الأضحية فقد نقله غير واحد من أهل العلم .
قال في (( في المغني )) : أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية . وجاء في (( فتح الباري شرح صحيح البخاري )) : ولا خلاف في كونها من شرائع الدين .
وبعد إجماعهم على مشروعية الأضحية اختلفوا : أواجبة هي أم سنة مؤكدة ؟ على قولين :
القول الأول : أنها واجبة ، وهو قول الأوزاعي ، والليث ، ومذهب أبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، قال شيخ الإسلام : وهو أحد القولين في مذهب مالك ، أو ظاهر مذهب مالك .
القول الثاني : أنها سنة مؤكدة ، وهو قول الجمهور ، ومذهب الشافعي ، ومالك ، وأحمد في المشهور عنهما ، لكن صرح كثير من أرباب هذا القول بأن تركها يكره للقادر ، ذكره أصحابنا ، نص الإمام أحمد وقطع به في الإقناع ، وذكر في (( جواهر الإكليل شرح مختصر خليل )) . أنها إذا تركها أهل بلد قوتلوا عليها ؛ لأنها من شعائر الإسلام .
أدلة القائلين بالوجوب : الدليل الأول : قوله ـ تعالى ـ : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) فأمر بالنحر ، والأصل في الأمر الوجوب .
الدليل الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : (( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا )) رواه أحمد وابن ماجه ، وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة .(7)
قال في (( فتح الباري )) ورجاله ثقات .
الدليل الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة : (( يا أيها الناس ، إن على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة )) .
قال في (( الفتح )) : أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي( .
الدليل الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم (( من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله )) متفق عليه(9) .
هذه أدلة القائلين بالوجوب ، وقد أجاب عنها القائلون بعدم الوجوب واحداً واحداً .
فأجابوا عن الدليل الأول : بأنه لا يتعين أن يكون المراد بها نحر القربان ، فقد قيل : إن المراد بها وضع اليدين تحت النحر عند القيام في الصلاة ، وهذا القول وإن كان ضعيفا لكن مع الاحتمال قد يمتنع الاستدلال .
وإذا قلنا : إن المراد بها نحر القربان كما هو ظاهر القرآن ، فإنه لا يتعين أن يكون المراد بها فعل النحر ، فقد قيل : إن المراد بها تخصيص النحر لله تعالى وإخلاصه له ، وهذا واجب بلا شك ولا نزاع .
وإذا قلنا : المراد بها فعل النحر كما هو ظاهر الآية ؛ فهو أمر مطلق يحصل امتثاله بفعل ما ينحر تقربا إلى الله تعالى من أضحية ، أو هدي ، أو عقيقة ولو مرة واحدة ، فلا يتعين أن يكون المراد به الأضحية كل عام .
وهذا تقرير جوابهم عن الآية ، وعندي أنه إذا صح الدليل الثالث ؛ صار مبينا للآية ، وصارت حجة على الوجوب . والله أعلم .
وقد يقال : إن وجوب النحر الذي تدل عليه هذه الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم شكرا منه لربه على ما أعطاه من الخير الكثير الذي لم يعطه أحد غيره ؛ بدليل ترتيبه عليه بالفاء ، وبدليل ما يأتي في الدليل الأول للقائلين بعدم الوجوب .
وأجابوا عن الدليل الثاني : بأن الراجح أنه موقوف ، ولعل أبا هريرة قاله حين كان والياً على المدينة ، قال في (( بلوغ المرام )) : رجح الأئمة وقفه ، اه . لكن قال في (( الدراية )) : إن الذي رفعه ثقة .
قلت : وإذا كان الذي رفعه ثقة ؛ فالمشهور عند المحدثين أنه إذا تعارض الوقف والرفع ، وكان الرافع ثقة فالحكم للرفع ؛ لأنه زيادة من ثقة مقبولة ، لكن قال في ((الفتح )) : إنه ليس صريحا في الإيجاب .
قلت : هو ليس بصريح في الإيجاب ، إذ يحتمل أن منعه من المسجد ، وحرمانه من حضور الصلاة ودعوة المسلمين عقوبة له على ترك هذه الشعيرة ، وإن لم تكن واجبة ، لكن من أجل تأكدها ، لكن هو ظاهر في الإيجاب ، ولا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه ، بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه .
وأجابوا عن الدليل الثالث : بأن أحد رواته أبو رملة ( عامر ) قال في ((التقريب )) : لا يعرف . وقال الخطابي : مجهول والحديث ضعيف المخرج . وقال المعافري : هذا الحديث ضعيف لا يحتج به . قلت : وقد سبق أن صاحب (( الفتح )) وصف سنده بالقوة ؛ لكنه قال : لا حجة فيه ؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق ، وقد ذكر معها العتيرة ، وليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية . اهـ .
وقد سبق الجواب بأنه لا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه ، وأما ذكر العتيرة معها وهي غير واجبة ؛ فقد ورد ما يخرجها عن الوجوب بل عن المشروعية عند كثير من أهل العلم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (( لا فرع ولا عتيرة ))(10) . متفق عليه . لكن العلة في الدليل جهالة أبي رملة . والله أعلم .
أجابوا عن الدليل الرابع : بأن الأمر إنما هو بذبح بدلها وهو ظاهر ؛ لأنهم لما أوجبوها تعينت ، وذبحهم إياها قبل الوقت لا يجزئ ، فوجب عليهم ضمانها بأن يذبحوا بدلها ، ونحن نقول بمقتضى هذا الحديث ، وأنه لو أوجب أضحية لوجب عليه ذبح بدلها .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (( ومن لم يذبح فليذبح باسم الله )) فهو أمر بكون الذبح على اسم الله لا بمطلق الذبح ، فلا يكون فيه دليل على وجوب الأضحية .
أدلة القائلين بعدم وجوب :
الدليل الأول : حديث : (( هن على فرائض ولكم تطوع : النحر ، والوتر ، وركعتا الضحى )) . أخرجه الحاكم والبزاز وابن عدي ، وروى نحوه أحمد ، وأبو يعلى ، والحاكم (11)، وذكر في التخليص له طرقا كلها ضعيفة ، وقال : أطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد ، والبيهقي ، وابن الصلاح ، وابن الجوزي ، والنووي وغيرهم .
قلت : والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام .
الدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته ، فعن على بن الحسين عن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا ضحى ؛ اشترى كبشين أقرنين سمينين أملحين ، فإذا صلى وخطب ؛ أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : (( اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ )) ، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : (( هذا عن محمد ، وآل محمد )) . فيطعمها جميعا المساكين ، ويأكل هو وأهله منهما ، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤونة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم . أخرجه أحمد والبزاز (12)، قال في مجمع الزوائد (13): وإسناده حسن ، سكت عنه في التلخيص ، وله شواهد عند أحمد ، والطبراني ، وأبن ماجه ، والبيهقي ، والحاكم(14) .
ووجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالواجب عن أمته فيكون الباقي تطوعا ، ولذلك مكث بنو هاشم سنين لا يضحون على مقتضى هذا الحديث .
الدليل الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي ؛ فليمسك عن شعره وأظفاره )) رواه الجماعة إلا البخاري(15) ، وفي رواية لمسلم : (( فلا يمس من شعره وبشره شيئا )) (16)
ووجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الأضحية إلى الإرادة ، وتفويضها إلى الإرادة ينافي وجوبها ، إذ الوجوب لزوم لا يفوض إلى الإرادة ، هكذا قالوا .
وعندي أن التفويض إلى الإرادة لا ينافي الوجوب إذا قام عليه الدليل ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت : (( هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ))(17) . ولم يمنع ذلك من وجوب الحج والعمرة بدليل آخر مرة في العمر ، فالتعليق على الإرادة ليس معناه أن الإنسان مخير في المراد على الإطلاق ، فقد يجب أن يريد إذا قام مقتضى الوجوب ، وقد لا يجب أن يريد إذا لم يكن دليل على الوجوب ، كما لو قلت : يجب الوضوء على من أراد الصلاة . والصلاة منها ما تجب إرادته كالفريضة ، ومنها ما لا تجب كالتطوع . وأيضا فالأضحية لا تجب على المعسر فهو غير مريد لها ، فصح تقسيم الناس فيها إلى مريد وغير مريد باعتبار اليسار والإعسار .
الدليل الرابع : أنه صح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما لا يضحيان مخافة أن يظن أن الأضحية واجبة (18). وعن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال : أني لأدع الأضحية ، وأنا من أيسركم، كراهة أن يعتقد الناس أنها حتم واجب . أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح ، وذكره البيهقي عن ابن عباس وابن عمر وبلال رضي الله عنهم(19) .
قلت : وإذا صح الوجوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قول غيره حجة عليه .
الدليل الخامس : التمسك بالأصل ، فإن الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل الوجوب السالم من المعارضة .
قلت : وهذا دليل قوي جدا لكن القائلين بالوجوب يقولون : إنه قد قام دليل الوجوب السالم من المعارضة فثبت الحكم . الدليل السادس : أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرايت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها ؟ قال : (( لا ، ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك ، وتحلق عانتك ، فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل )) . رواه أبو داود والنسائي ، ورواته ثقات(20) . والمنيحة: شاة اللبن تعطى للفقير يحلبها ويشرب لبنها ثم يردها ، وهذا سنة ، ولو كانت الأضحية واجبة لم تترك من أجل فعل السنة ، إذ المسنون لا يعارض الواجب . وهذا تقرير جيد وفيه تأمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : والأظهر وجوبها ( يعني الأضحية ) فإنها من أعظم شعائر الإسلام ، وهي النسك العام في جميع الأمصار ، والنسك مقرون بالصلاة ، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته ، وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها ، ونفاه الوجوب ليس معهم نص ، فإن عمدتهم قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ))(21) . قالوا : والواجب لا يعلق بالإرادة ، وهذا كلام مجمل ، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد ، فيقال : إن شئت فافعله ، بل يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام .
قلت : مثل أن تقول : إذا أردت أن تصلي الظهر فتوضأ ، فصلاة الظهر واجبة لكن تعليقها بالإرادة لبيان حكم الوضوء لها .
قال شيخ الإسلام في بقية كلامه على الأضحية : ووجوبها مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية كصدقة الفطر . اهـ . ملخصاً من (( مجموع الفتاوى )) لابن قاسم ( من ص162 ـ 164 ـ مجلد 32 ) .
هذه آراء العلماء وأدلتهم سقناها ليبين شأن الأضحية وأهميتها في الدين ، والأدلة فيها تكاد تكون متكافئة ، وسلوك سبيل الاحتياط أن لا يدعها مع القدرة عليها ، لما فيها من تعظيم الله وذكره وبراءة الذمة بيقين . فصل
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها ، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله ، قال ابن القيم ـ وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه البارزين ـ : (( الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ، ولو زاد ( يعني ولو زاد في ثمنه فتصدق بأكثر منه ) كالهدايا والضحايا ، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود ، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) ، وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162) ، ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما ، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران أضعاف القيمة ؛ لم يقم مقامه ، وكذلك الأضحية . اهـ .
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها : أنه هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فإنهم كانوا يضحون ، ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل ؛ لعدلوا إليها وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعمل عملا مفضولا يستمر عليه منذ أن كان في المدينة إلى أن توفاه الله مع وجود الأفضل وتيسره ثم لا يفعله مرة واحدة ، ولا يبين ذلك لأمته بقوله ، بل استمرار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على الأضحية يدل على أن الصدقة بثمن الأضحية لا تساوي ذبح الأضحية فضلا عن أن تكون أفضل منه ، إذ لو كانت تساويه لعملوا بها أحيانا ؛ لأنها أيسر وأسهل ، أو تصدق بعضهم وضحى بعضهم كما في كثير من العبادات المتساوية ، فلما لم يكن ذلك ؛ علم أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها . ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها : أن الناس أصابهم ذات سنة مجاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الأضحية ، ولم يأمرهم بصرف ثمنها إلى المحتاجين ، بل أقرهم على ذبحها ، وأمرهم بتفريق لحمها كما في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته شيء )) فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ، نفعل كما فعلنا في العام الماضي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( كلوا وأطعموا وادخروا ، فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها )) (22).
وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنه سئلت : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي أن تؤكل فوق ثلاث ؟ فقالت : ما فعله إلا عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغني الفقير (23).
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها : أن العلماء اختلفوا في وجوبها ، وأن القائلين بأنها سنة صرح أكثرهم أو كثير منهم بأنه يكره تركها للقادر ، وبعضهم صرح بأنه يقاتل أهل بلد تركوها ، ولم نعلم أن مثل ذلك حصل في مجرد الصدقة المسنونة .
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها : أن الناس لو عدلوا عنه إلى الصدقة ؛ لتعطلت شعيرة عظيمة نوه الله عليها في كتابه في عدة آيات ، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها المسلمون ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم ، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج في بعض السنين ، كذا قال .
قال : وقد قالوا إن الحج كل عام فرض على الكفاية ؛ لأنه من شعائر الإسلام ، والضحايا في عيد النحر كذلك ، بل هذه تفعل في كل بلد هي والصلاة ، فيظهر بها من عبادة الله وذكره والذبح له والنسك له ما لا يظهر بالحج كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد . اهـ. .
والأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافا لما يظنه بعض العامة أنها للأموات فقط .
وأما الأضحية عن الأموات ؛ فهي ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن تكون تبعا للأحياء ، كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات ، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يضحي ويقول : (( اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد )) (24) وفيهم من مات سابقا .
القسم الثاني : أن يضحي عن الميت استقلالا تبرعا ، مثل : أن يتبرع لشخص ميت مسلم بأضحية ، فقد نص فقهاء الحنابلة على أن ذلك من الخير ، وأن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به ؛ قياسا على الصدقة عنه ، ولم ير بعض العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به . لكن من الخطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعا أو بمقتضى وصاياهم ، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء، فيتركون ما جاءت به السنة ، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية ، وهذا من الجهل ، وإلا فلو علموا بان السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات ، وفضل الله واسع .
القسم الثالث : أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذا لوصيته ، فتنفذ كما أوصى بدون زيادة ولا نقص ، والأصل في ذلك قوله تعالى في الوصية : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:181) . وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ضحى بكبشين وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه . رواه أبو داود ، ورواه بنحوه الترمذي وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك(25) . اهـ . قلت : وفي إسناده مقال .
وإذا كانت الوصية بأضاحي متعددة ولم يكف المغل لتنفيذها مثل أن يوصي شخص بأربع ضحايا : واحدة لأمه ، وواحدة لأبيه وواحدة لأولاده ، وواحد لأجداده وجداته ، ولم يكف المغل إلا لواحدة فإن تبرع الوصي بتكميل الضحايا الأربع من عنده فنرجو أن يكون حسنا ، وإن لم يتبرع جمع الجميع في أضحية واحدة كما لو ضحى عنهم في حياته .
وإن كانت الوصية في أضحية واحدة ولم يكف المغل لها فإن تبرع الوصي بتكميلها من عنده فنرجو أن يكون حسنا ، وإن لم يتبرع أبقى المغل إلى السنة الثانية والثالثة حتى يكفي الأضحية فيضحي به ، فإن كان المغل ضئيلا لا يكفي لأضحية إلا بعد سنوات يخشى من ضياعه في إبقائه إليها ، أو من أن تزايد قيم الأضاحي فإن الوصي يتصدق بالمغل في عشر ذي الحجة ولا يبقيه ؛ لأنه عرضة لتلفه ، وربما تتزايد قيم الأضاحي كل عام ، فلا يبلغ قيمة الأضحية مهما جمعه ، فالصدقة به خير .
واخترنا أن يتصدق به في عشر ذي الحجة ؛ لأنه الزمن الذي عين الموصي تنفيذ وصيته فيه ، ولأن العشر أيام فاضلة ، والعمل الصالح فيها محبوب إلى الله عز وجل ، قال النبي صلي الله عليه وسلم : (( ما من أيام العمل الصالح فيها محبوب إلى الله من هذه الأيام العشر )) وقالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : (( ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )) (26). (تنبيه عام ) : يذكر بعض الموصين في وصيته قدراً معيناً للموصي به مثل أن يقول : يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالا . يقصد المغالاة في ثمنها ؛ لأنها في وقت وصيته بربع ريال أو نحوه ، فيقوم بعض من لا يخشى الله من الأوصياء فيعطل الوصية بحجة أن الريال لا يمكن أن يبلغ ثمن الأضحية الآن ، وهذا حرام عليه ، وهو آثم بذلك ، ويجب تنفيذ الوصية بالأضحية ، وإن بلغت آلاف الريالات مادام المغل يكفي لذلك ؛ لأن مقصود الموصي معلوم ، وهو المبالغة في قيمة الأضحية مهما زادت ، وذكره الريال على سبيل التمثيل ، لا على سبيل التحديد . ----------------------
(1) رواه البخاري ، كتاب الأضاحي باب الذبح بعد الصلاة ، (5560) ومسلم، كتاب الأضاحي باب وقتها، رقم (1961).
(2) رواه البخاري ، كتاب الأضاحي ، باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس، رقم (5547) ومسلم كتاب الأضاحي باب سن الأضحية، رقم (1965).
(3) رواه البخاري ، كتاب الأضاحي ، باب التكبير عند الذبح ، رقم (5565) ومسلم، كتاب الأضاحي ،باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة (1966).
(4) رواه أحمد (28/2) والترمذي ، كتاب الأضاحي ، باب الدليل على أن الأضحية سنة رقم (1507)
(5) رواه البخاري، كتاب الأضاحي ، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، رقم (5562) ومسلم ، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1960).
(6) رواه الترمذي ، كتاب الأضاحي ، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، رقم (1505) وابن ماجه ، كتاب الأضاحي ، باب من ضحي بشاة عن أهله، رقم ( 3147).
(7) رواه أحمد (2/321) وابن ماجه ، كتاب الأضاحي ، باب الأضاحي واجبة هي أم لا ؟رقم (3123) ،والحاكم (2/389).
(
رواه أحمد(4/215) وأبو داود ، كتاب الأضاحي، باب ما حاء في إيجاب الأضاحي، رقم (2788) ، والترمذي ، كتاب الأضاحي، باب رقم (18) حديث الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا ؟ رقم (3125).
(9) تقدم تخريجه.
(10) رواه البخاري، كتاب العقيقة، باب الفرع، رقم (5473) ومسلم ، كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة، رقم (1976)
(11) أخرجه أحمد(1/231)، والحاكم (1/300) والبيهقي (9/264)
(12) أخرجه أحمد(6/8391)، والبزار (9/319) وابن ماجه ، كتاب الأضاحي باب أضاحي رسول الله النبى صلي الله عليه وعلي آله وسلم ، رقم (3122).
(13) ((مجمع الزوائد)) (4/22).
(14) راجع: أحمد (6/391) والطبراني في (( الكبير))( 1/311)ابن ماجه رقم (3122)، والبيهقي(9/259) والحاكم (2/425)
(15) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد..، رقم (1977)وأبو داود، كتاب الضحايا باب الرجل يأخذ من شعره في العشر، رقم (2971)، والترمذي ، كتاب الأضاحي، باب من ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، رقم (1523)، والنسائي ، كتاب الضحايا باب رقم (1) حديث رقم (4361)، وابن ماجه ، كتاب الأضاحي، باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر..، رقم 03149)
(16) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، رقم (1977)
(17) رواه البخاري ، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، رقم (1526)، ومسلم، كتاب الحج باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (1181)
(18) (( السنن الكبري) للبيهقي (9/264).
(19) (( السنن الكبري)) البيهقي (9/265)
(20) رواه أبو داود، كتاب الضحايا ، باب ما جاء في إيجاب الضاحي، رقم (2789) والنسائي ، كتاب الضحايا باب من لم يجد الأضحية، رقم (4365).
(21) سبق تخريجه ص12
(22) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي ومايتزود منها، رقم (5569)، ومسلم ، كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، رقم (1974).
(23) رواه البخاري، كتاب الأطعمة باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم واسفارهم..، رقم (5423).
(24) سبق تخريجه
(25) رواه أبو داود، كتاب الضحايا باب الأضحية عن الميت، رقم (2790)والترمذي ، كتاب الأضاحي باب ما جاء في الأضحية عن الميت، رقم (1495)
(26) رواه البخاري، كتاب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق ، رقم (969) وأبو داود، كتاب الصوم ، باب في صوم العشر، رقم 02438) والترمذي، كتاب الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر، رقم (757) وابن ماجه ، كتاب الصيام، باب صيام العشر، رقم (1727).