قال شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه و نوّر ضريحه – :
” مرض القلب : ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك فإن ذلك يؤلم القلب. قال الله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين} {ويذهب غيظ قلوبهم} فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم ويقال: فلان شفي غيظه وفي القود استشفاء أولياء المقتول ونحو ذلك. فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن وكل هذه آلام تحصل في النفس. وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب قال النبي صلى الله عليه وسلم {هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} . والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين ، ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق: قد شفاني بالجواب.
والمرض دون الموت ؛ فالقلب يموت بالجهل المطلق ويمرض بنوع من الجهل ، فله موت ومرض وحياة وشفاء وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه.
قال تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض} لأن ذلك أورث شبهة عندهم والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان فصار فتنة لهم.
وقال: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة} كما قال: {وليقول الذين في قلوبهم مرض} لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين وليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين بل فيها مرض شبهة وشهوات وكذلك {فيطمع الذي في قلبه مرض} وهو مرض الشهوة فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض.
والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره فيبقى القلب محبا للرشاد مبغضا للغي بعد أن كان مريدا للغي مبغضا للرشاد.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما ينميه ويقومه فإن زكاة القلب مثل نماء البدن. و الزكاة في اللغة : النماء والزيادة في الصلاح. يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح.
فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له ولا بد مع ذلك من منع ما يضره فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا.
و ” الصدقة ” لما كانت تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار صار القلب يزكو بها وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب. قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب ، وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن ومثل الدغل في الزرع.
فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغا من تخليطاته حيث خلط عملا صالحا وآخر سيئا فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإراداته للأعمال الصالحة واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه. فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل. قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا} وقال تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} وقال: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} وقال تعالى: {قد أفلح من تزكى} {وذكر اسم ربه فصلى} وقال تعالى: {قد أفلح من زكاها} {وقد خاب من دساها} وقال تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} وقال تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} {وأهديك إلى ربك فتخشى} فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركة وزيادة الخير فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا. وقال: {وويل للمشركين} {الذين لا يؤتون الزكاة} وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وإثبات إلهية الحق في القلب وهو حقيقة لا إله إلا الله. وهذا أصل ما تزكو به القلوب.
والتزكية جعل الشيء زكيا: إما في ذاته وإما في الاعتقاد والخبر؛ كما يقال عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه أو في اعتقاد الناس قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} أي تخبروا بزكاتها وهذا غير قوله: {قد أفلح من زكاها} ولهذا قال: {هو أعلم بمن اتقى} وكان اسم زينب برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.
وأما قوله: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء} أي يجعله زاكيا ويخبر بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم.
و ” العدل ” هو الاعتدال ، والاعتدال هو صلاح القلب كما أن الظلم فساده ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالما لنفسه ، والظلم خلاف العدل فلم يعدل على نفسه؛ بل ظلمها؛ فصلاح القلب في العدل وفساده في الظلم وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر ، قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج فصلاحها عدل لها وفسادها ظلم لها قال تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} وقال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}
قال بعض السلف: إن للحسنة لنورا في القلب وقوة في البدن وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق. وقال تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} وقال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} وقال: {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} وتبسل أي ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه والمرض إنما هو بإخراج المزاج مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه لكن الأمثل؛ فالأمثل؛ فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف. والعدل المحض في كل شيء متعذر علما وعملا ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال: هذا أمثل ويقال للطريقة السلفية: الطريقة المثلى. وقال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} وقال تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها} . والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ثم العدل على الناس في حقوقهم ثم العدل على النفس ” انتهى