الأحكام السلطانية عند ابن عثيمين [1/2]
الاثنين 02 جمادى الأولى 1430 الموافق 27 إبريل 2009
عبد العزيز بن عبد الرحمن الشبرمي
المقدمّـة :
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ،ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه ،وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
وبعد :
فإنّه في زمنٍ تتوالى فيه النوازل، والمستجدات ، وتتجدد فيه الوقائع، والمستحدثات ، يظل المرء محتاجاً إلى الاشتمال بلباس الفقه، متسلحاً بسلاح العلم، والفهم، وذلك من خلال الصدور عن أهل العلم الراسخين فيه ، وما القضايا السياسية، ومستجداتها، إلا واحدة من أهم تلك النوازل التي تنزل بالأمة ،والتي يحتار فيها الناس عموماً، وأهل الاختصاص بذلك خصوصاً، والتي ينبغي أن تُولى مزيد اهتمام ،ووافر عناية، ذلك أن الخلل في فهمها ،أو الخطأ في التعامل معها ،يعني فادحة كبرى، وزلةً ذات خطر .
ومن هنا جاءت فكرة البحث في معالمَ سياسيةٍِ في فقه أحد العلماء الراسخين علماً ،وفهماً، وحكمةً ،فكان الاختيار لفقه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- لا سيما وقد فهم كثير من معاصرية تناوله لفقه الأحكام في العبادات ،والمعاملات، والعقائد، دون الحديث عن السياسة ،والحكم، فكانت الرغبة لإبراز هذه المعالم السياسية في فقهه – رحمه الله – وتدوين ذلك برسالة علمية كي تكون نبراساً للباحث و لطلاب الحق الباحثين عنه، في زمن تكاثرت فيه المواقف ،والاتجاهات ،سائلاً المولى القدير أن يوفقني في إبراز هذه المعالم ، وصلى الله ,وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين ،،، الباحث ،،
التّمهيـــــد ، وفيه:
أولا- التعريف بالسياسة.
ثانيا- التعريف بشخصية البحث (فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين )
ثالثا- أسباب اختيار الموضوع.
رابعا- الدراسات السابقة.
أولا- تعريف السياسة:
السياسة: بكسر السين مصدر ساس يسوس الدواب: راضها وعني بها...
والسِّيَاسَةُ : فِعْل السائسِ وهو مَن يَقوم على الدّوابِّ ويَرْوضُهَا . وسَوَّسَ له أَمْراً أَي رَوَّضَه وذَلَّلَه.
واصطلاحا: رعاية شئون الأمة بالداخل، والخارج ،وفق الشريعة الإسلامية.
قال ابن القيم: قال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي.
ثانيا - التعريف بشخصية البحث (فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ):
هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن العثيمين الوهيبي التميمي.
كان مولده في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ، في مدينة عنيزة - إحدى مدن القصيم- بالمملكة العربية السعودية.
تعلّم القران الكريم على جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان الدامغ -رحمه الله- ثم تعلم الكتابة ،وشيئاً من الأدب، والحساب، والتحق بإحدى المدارس ،وحفظ القرآن عن ظهر قلب في سن مبكرة، وكذا مختصرات المتون في الحديث، والفقه.
درس على الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، وقرأ عليه في التفسير، والحديث، والتوحيد، والفقه، وأصوله، والفرائض، والنحو.
ويعتبر الشيخ عبدالرحمن السعدي شيخه الأول الذي نهل من معين علمه، وتأثر بمنهجه، وتأصيله، واتّباعه للدليل، وطريقة تدريسه ، وقد توسم فيه شيخه النجابة، والذكاء، وسرعة التحصيل، فكان به حفياً، ودفعه إلى التدريس ،وهو لا يزال طالباً في حلقته.
وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان -رحمه الله- في علم الفرائض حال ولايته القضاء في عنيزة.
وقرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- في النحو والبلاغة أثناء وجوده في عنيزة.
ولمّا فتح المعهد العلمي بالرياض، أشار عليه بعض إخوانه أن يلتحق به، فاستأذن شيخه عبد الرحمن السعدي فأذن له فالتحق بالمعهد العلمي في الرياض سنة 1372هـ، وانتظم في الدراسة سنتين انتفع فيهما بالعلماء الذين كانوا يدرسون في المعهد حينذاك، ومنهم العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد ،والشيخ عبد الرحمن الأفريقي، وغيرهم (رحمهم الله).
واتصل بسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري، ومن رسائل شيخ الإسلام بن تيمية ،وانتفع منه في علم الحديث، والنظر في آراء فقهاء المذاهب، والمقارنة بينها ،ويعتبر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز شيخه الثاني في التحصيل، والتأثر به.
وتخرج في المعهد العلمي ،ثم تابع دراسته الجامعية انتساباً حتى نال الشهادة الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
بدأ التدريس منذ عام 1370هـ في الجامع الكبير بعنيزة في عهد شيخه عبد الرحمن السعدي ،وبعد أن تخرج من المعهد العلمي في الرياض عين مدرساً في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374هـ.
وفي سنه 1376هـ توفي شيخه عبدالرحمن السعدي فتولى بعده إمامة المسجد بالجامع الكبير في عنيزة، والخطابة فيه ،والتدريس بمكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع ،والتي أسسها شيخه عام 1359هـ .
ولمّا كثر الطلبة، وصارت المكتبة لا تكفيهم صار يدرس في المسجد الجامع نفسه ،واجتمع إليه طلاب كثيرون من داخل المملكة، وخارجها ،حتى كانوا يبلغون المئات، وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيل لا لمجرد الاستماع - ولم يزل مدرساً في مسجده، وإماماً،وخطيباً حتى توفي -رحمه الله-.
استمر مدرساً بالمعهد العلمي في عنيزة حتى عام 1398هـ، وشارك في آخر هذه الفترة في عضوية لجنة الخطط، ومناهج المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ،وألف بعض المناهج الدراسية.
ثم لم يزل أستاذاً بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم بكلية الشريعة ،وأصول الدين منذ العام الدراسي 1398-1399هـ حتى توفي -رحمه الله-.
درّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج، وشهر رمضان، والعطل الصيفية.
شارك في عدة لجان علمية متخصصة عديدة داخل المملكة العربية السعودية.
ألقى محاضرات علمية داخل المملكة، وخارجها عن طريق الهاتف.
تولى رئاسة جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة منذ تأسيسها عام 1405هـ حتى وفاته -رحمه الله-
كان عضواً في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للعامين الدراسيين 1398 - 1399 هـ و 1399 - 1400 هـ.
كان عضواً في مجلس كلية الشريعة، وأصول الدين بفرع الجامعة بالقصيم، ورئيساً لقسم العقيدة فيها.
كان عضواً في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منذ عام 1407هـ حتى وفاته -رحمه الله-
وكان بالإضافة إلي أعماله الجليلة والمسؤوليات الكبيرة حريصاً على نفع الناس بالتعليم ،والفتوى ،وقضاء حوائجهم ليلاً، ونهاراً ،حضراً ،وسفراً ،وفي أيام صحته، ومرضه.
كما كان يلزم نفسه باللقاءات العلمية، والاجتماعية النافعة المنتظمة المجدولة، فكان يعقد اللقاءات المنتظمة الأسبوعية مع قضاة منطقة القصيم، وأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عنيزة، ومع خطباء مدينة عنيزة، ومع كبار طلابه، ومع الطلبة المقيمين في السكن، ومع أعضاء مجلس إدارة جمعية تحفيظ القران الكريم، ومع منسوبي قسم العقيدة بفرع جامعة الإمام بالقصيم.
توفي ابن عثيمين رحمه الله قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية رحمه الله تعالى -
وصلى على الشيخ في المسجد الحرام بعد صلاة العصر يوم الخميس السادس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ الآلاف المؤلفة ،وشيعته إلي المقبرة في مشاهد عظيمة لا تكاد توصف، ثم صلى عليه من الغد بعد صلاة الجمعة صلاة الغائب في جميع مدن المملكة، و في خارج المملكة جموع أخرى لا يحصيها إلا باريها، ودفن بمكة المكرمة رحمه الله رحمة واسعة.
ثالثا- أسباب اختيار الموضوع.
1- محاولة إبراز الفقه السياسي لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، والذي ظل مغمورا بين صفحات فقه الشيخ في سائر الفنون.
2- الحاجة الماسة في هذا الزمن لآراء الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين- رحمه الله- في الجوانب السياسية، وجمعها في منظومة واحدة يسهل الرجوع إليها، وإبرازها لقرب عهده ، وثقة الآخرين بفقهه، وسداد رأيه.
3- توثيق الآراء السياسية للشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله -،والذي يُعتدُّ برأيه عند طلاب الحق ،وقطع الطريق أمام المفترين على الشيخ ببعض الآراء ،والتي كان كثيرا ما يشتكي منها أثناء حياته، والتي كثرت بعد وفاته- رحمه الله-.
4- الرغبة الشخصية للتعرف على جانب من أهم الجوانب التي أولاها فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- عناية، وهو الجانب السياسي، الذي يبدو الشيخ غير مشتهر به من أول نظرة.
5- إثراء المكتبة الإسلامية بهذا الجهد المقل ،عسى أن يكون حافزا للمتخصصين للكتابة فيه بشكل واسع، ومفصّل.
رابعا- الدراسات السابقة:
من خلال البحث في مظان البحوث، والدراسات لم يظهر لي أسبقية بحث هذا الموضوع ، وإنما تبين لي وجود مشاريع بحوث ،وكتابات في مثله، من قبل الطلاب المقربين من فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين،إضافة إلى رسائل وبحوث علمية في فقه الشيخ غير السياسي كأصول الفقه، أو القواعد الفقهية ،أو علوم القرآن عند الشيخ -رحمه الله- إضافة إلى ما كتب عن الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- من كتب ،وأحاديث عن حياة الشيخ، وشيء من سيرته، ومواقف الناس معه، ولم يتطرق فيها لشيء من المعالم السياسية عنده ،سوى الحديث عن علاقة الشيخ بولاة الأمر ، وكلامه عن مسألة وجوب طاعة الإمام، وتحريم الخروج عليه ،دون ذكر لبقية المعالم السياسية ،إضافة إلى كون المكتوب بعيدا عن الطرح الأكاديمي، ومن هذه المؤلفات:
1- ابن عثيمين، الإمام الزاهد للدكتور ناصر بن مسفر الزهراني.
2- الجامع في حياة الشيخ محمد بن صالح العثيمين للدكتور وليد الحسين الزبيري .
3- أربعة عشر عاما مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين للشيخ عبدالكريم بن صالح المقرن.
4- صفحات من حياة الفقيد العالم الزاهد الشيخ محمد بن عثيمين للدكتور عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار.
5- صفحات مشرقة من حياة الإمام محمد بن صالح العثيمين للشيخ يوسف بن عبدالله المطر.أما الدراسات والبحوث العلمية المتخصصة بتناول فقه الشيخ محمد بن صالح العثيمين فهي كثيرة ومتنوعة بتنوع فنون علم الشيخ رحمه الله ومن هذه الدراسات:
1-منهج الشيخ محمد بن عثيمين في الدعوة إلى الله ، رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث عبدالعزيز بن عبدا لرحمن الروضان لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1425هـ إشراف الدكتور حمد بن ناصر العمار.
2- جهود الشيخ ابن عثيمين وآراؤه في التفسير رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث أحمد بن محمد البريدي عام 1426هـ
3- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في أبوب القرض والرهن والضمان والحوالة والصلح ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :صالح بن غانم بن سلطان العمري لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
4- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في كتب العارية وإحياء الموات والجعالة واللقطة واللقيط، بحث تكميلي تقدم به الباحث : بدر بن سعود بن أحمد البدر لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
5- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في الوكالة والشركة والمساقاة والإجارة ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :عبدالرحمن بن سعد الحربي لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
6- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في أبوب الإيلاء والظهار واللعان والأيمان ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :عبدالرحمن بن عابد المالكي لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
7- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في بابي الحجر والشفعة بحث تكميلي تقدم به الباحث :محمد بن عبدالله بن حمد المسلم لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
8- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في باب الأطعمة ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :عبدالعزيز بن محمد السلطان لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
9- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في بابي الجنايات والديات ، بحث تكميلي تقدم به الباحث : سعد بن عبدالرحمن الفريان لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
10- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية فيكتاب النكاح ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :جبران بن حسين بن أسعد لغبي لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
11- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية من كتاب القضاء إلى نهاية كتاب الإقرار ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :أحمد بن عبدالعزيز الصقعوب لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد ابن عمر الخراشي.
12- اختيارات الشيخ محمد بن صالح العثيمين الفقهية في كتاب الحدود ، بحث تكميلي تقدم به الباحث :ابراهيم بن سليمان الربعي لنيل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1426هـ إشراف الدكتور سعد بن عمر الخراشي.
إلى غير ذلك من البحوث والرسائل العلمية التي تناولت فنا من الفنون العلمية أو بابا من أبواب الفقه وموقف الشيخ محمد بن عثيمين وآرائه فيه خلا جانب هذا البحث وهو جانب السياسة الشرعية لاسيما مع اهتمام الشيخ به من خلال مواقفه السياسية الخالدة والواضحة وحرصه على استقرار البلاد وتناوله للسياسة الشرعية شرحا وتعليما من خلال شرح كتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله الجميع.
&artshow-86-111893.htm#0226; الفصل الأول: المعالم السياسية الداخلية في فقه الشيخ محمد بن عثيمين. وتحته خمســـة معالم:
المعلم الأول: الاهتمام بالولاية والإمارة ،
المعلم الثاني: الحقوق والواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم،
المعلم الثالث: طريقة الحكم ومقصوده، وسياسة البلاد.
المعلم الرابع: التعامل مع أهل البغي, والفساد.
المعلم الخامس: الشورى.
المعلم الأول: الاهتمام بالولاية والإمارة ، وتحته تسعة فروع:
الفرع الأول:حكم نصب الحاكم الأصلح.
الفرع الثاني:حكم تولية من طلب الحكم.
الفرع الثالث:أركان الحكم.
الفرع الرابع:حكم تحديد سنوات الحكم.
الفرع الخامس:طريقة التنصيب للحاكم وحكم الانتخابات.
الفرع السادس:حكم طاعة الحاكم.
الفرع السابع:تصرفات الحاكم .
الفرع الثامن:نصيحة الحكّام ،وزيارتهم .
الفرع التاسع:حكم قتل الحاكم.المعلم الأول : الاهتمام بالولاية والإمارة :
الفرع الأول : حكم نصب الحاكم الأصلح :
ما كان العلماء الأجلاء على مر العصور السالفة، والمعاصرة ،ومنهم فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين- رحمه الله - ليتساهلوا في مسألة الولاية، والحكم، وضرورة نصبه على المسلمين ،ليستقيم بذلك أمر الدين، والدنيا ،لذا قال رحمه الله : ولا يمكن أن تستقيم الأحوال بدون أمير، ولا يمكن أن تستقيم بأمير لا إمرة ولا طاعة له ، ولهذا ينكر أشد الإنكار على الذين يدعون إلى منابذة الحكام، وعدم السمع ،والطاعة لهم ، إذ إن طاعتهم واجبة، والخضوع لأمرهم واجب، إلا في شيء واحد وهو أن يأمروا بمعصية .
وشدد في ذلك فقال : فالمسألة مهمة جداً ،وهي الإمرة ،فلا بد للناس من أمير ،لهذا قال السفاريني رحمه الله : ولا غنى لأمة الإسلام في كل عصركان عن إمام .
بل تجاوز الأمر عند الشيخ رحمه الله إلى بلاد الكفار فقال : حتى البلاد الكافرة الآن لا بد أن يؤمروا واحداً عليهم .. ولا يمكن أن تستقيم الأحوال بدون أمير.
ولمّا كانت الإمارة موضوعة لخلافة النبوة، وحراسة الدين، والقيام بمصالح البشرية، كان نصب الحاكم، والإمام من الواجب المتفق عليه بين أهل العلم، كما قال الماوردي رحمه الله : الإمارة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا ،وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
وقد تنبّه ابن عثيمين- رحمه الله- إلى ضرورة نصب أصلح الأمة في هذا الموطن، وعدم تولية أحدٍ في كل مسؤولية ،سواء كانت الإمارة الكبرى، أو ما دونها من المسؤوليات، إلا أن يكون أصلح الناس لها، وأجدرهم بها ،فيقول رحمه الله : فيجب على ولي الأمر -الولاية العامة – أن لا يوظف إلا من هو أصلح في ذلك العمل بعينه ،وكذلك في الولايات الخاصة كمدير المدرسة ..
وقال يجب على الوالي الأكبر، والأصغر ،أن يولي على العمل أصلح من يكون قائماً بهذه الأعمال ،وهذا مقتضى الأمانة .
وشدّد رحمه الله أن يكون سبب التولية غير الصلاح، كسبب القرابة، أو الشرف، واعتذر رحمه الله عن سبب التولية بسبب الحصول على الشهادات لكونها مقربة، وقرينة على كفاءات الإنسان المولّى، شريطة أن يكون صالحاً مصلحاً، وإلاّ وجب عزله، واستبداله بخير منه.
واستدرك رحمه الله قائلاً : وإذا ولي الأمرَ غيرُ الأصلح فإنه تجب طاعته، إلا في معصية الله، وحسابه على الله تعالى، لهم على رعيتهم حق السمع والطاعة، وعليهم حق تولية الأصلح على رعاياهم .
الفرع الثاني : حكم تولية من طلب الحكم :
إذا كان قد تقرر أن فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يرى وجوب تولية الأصلح في كل الولايات، كبيرها، وصغيرها، فإن ثمة مانع من تولية الرجل الأصلح، وهو ما لو طلب الولاية لنفسه، حيث قال : بأنَّ طلب الولاية سببٌ في منع من طلب.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري، ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "أن قوماً دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه الولاية فقال ، إنّا لا نولّي أمرنا هذا من طلبه ".
واستثنى من ذلك رحمه الله ، ما لو خشي الإنسان أن يولي الإمام إنساناً غير كفءٍ للإمامة وهو يعرف عدم كفاءة ذلك الشخص، ويرى من نفسه القدرة على توليِّها، فله أن يطلبها لنفسه ،حماية للولاية من وصول غير الأكفاء لها .
والدليل على ذلك ما حكاه الله عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام،حين طلب الإشراف على خزينة المال قائلاً :{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
الفرع الثالث : أركان الحكم :
يرى فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- موافقا في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رأيه أن ركني الولاية هما: القوة، والأمانة فيجب في كل ذي ولاية أن يكون قوياً، وأميناً ،لقوله تعالى : [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] ويرى أن القوة في كل ولاية بحسبها، ففي باب الحرب القوة هي شجاعة القلب، وقوة البدن، والخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والكرّ والفر، وما أشبه ذلك .
وفي الحكم بين الناس القوة فيه بالعلم ،وقوة الشخصية، وتنفيذ الأحكام، وعدم التهاون بها.
ويصف- رحمه الله- وجود هذين الركنين في هذا الزمن بأنه عزيز، فتجد الذي ليس أهلاً للولاية من حيث الأمانة تجد عنده نشاطاً، وقوة، وإنجاز للأعمال ، وتجد الرجل الأمين يفقد هذا ،ولذلك فإن الناس يختارون الذي ينجز الأعمال ولو لم يكن أميناً، وفي حالة افتقاد أحد هذين الركنين في مجموع الأمة فإن الشيخ رحمه الله يرى أن الأنسب تولية القوي في الحرب، وإن كان فاجراً، لكن يضم إليه أمين، وإذا كان قائد الحرب أميناً ضعيفاً ضم إليه قوي ليكون مساعداً له، أو نائباً له، يرجع إليه في الأمور.
ويدخل في هذا الباب ما إذا كان الخليفة شديداً ناسب أن يكون نائبه ليناً، كأبي عبيدة ابن الجراح في زمن الخليفة عمر بن الخطاب ،وإذا كان الخليفة ليناً ناسب أن يكون نائبه شديداً حازماً كالوليد في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.
وقال رحمه الله :
إذا لم نجد من تتوفر فيه القوة الأمانة على الوجه الأكمل نختار الأصلح فالأصلح، وإذا اختار الأصلح مثلاً في وقته ،وحسب واقع الناس، وتبين أنه غير صالح وجب أن يعدل عنه. الفرع الرابع : حكم تحديد سنوات الحكم :
لا يرى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين- رحمه الله- مانعاً من تقييد سنوات الولاية بمدة معينة، بل يرى أن هذا الأمر فيه مصلحة للمجتمع ،حتى يرى كفاءته من عدمها ،حيث يقول: ولا بأس بتقييد الولاية سنة، أو سنتين، أو ثلاث، أو أربع ،أو غير ذلك، لا بأس به فهذا جيد، لأنه يفيد .
وقال : وجعْلُ الولاية مقيدة بسنوات هذا طيب، حتى يختبر ،وينظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهلٌ فيكون أهلاً؟ وكم من إنسان يكون بالعكس نظنه أهلاً ويكون غير أهلٍ؟ وعلل رحمه الله بأن الولاية ليس عقد إيجار، والتقدير يكون بحسب المصلحة ،زادت المدة، أو نقصت.
الفرع الخامس : طريقة التنصيب للحاكم وحكم الانتخابات :
لمّا كان طلب الولاية مانعاً من توليها عند الشيخ -رحمه الله-، ولما كانت طريقة التولية في هذا الزمن تختلف عنها في الزمن السابق، حيث يجتمع أهل الحل، والعقد في الزمن السابق، ويبايعون إمامهم، وينصبون حكّامهم، وأصبح الواقع أن الانتخابات تجري في بعض الدول والحكومات ليختار الناس من يتولى عليهم، ويستلزم من ذلك طلب المنتخب أن يرشّح نفسه ،ويطلب الولاية، فهل له ذلك؟ وهل يمنع من التولي؟
يجيب رحمه الله قائلا : وأما الذين يطلبون الولاية في الانتخابات، فإنهم لا يقصدون أن يتولوا هم ، والله أعلم بنياتهم ، لكن يقصدوا أن يتولى حزبهم مثلاً، لأن هناك حزباً مضاداً،فلو تركت الأحزاب الأخرى الضالة فإنه يحصل الفساد ،وهذا كقول يوسف عليه السلام للعزيز [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]
الفرع السادس : حكم طاعة الحاكم .
تناول الشيخ- رحمه الله- علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المحكوم بالحاكم في أكثر من مناسبة، وفي تناوله لحقوق الحكام على المحكومين بيّن رحمه الله وجوب طاعة ولاة الأمور، وتحريم معصيتهم إلا إذا أمروا بمعصية ،حيث يقول : فتجب طاعة ولي الأمر ولو كان من أفسق عباد الله، وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب طاعة ولاة الأمور، والصبر عليهم وإن رأينا منهم ما نكره في أديانهم، وعدلهم، واستئثارهم فإننا نسمع ونطيع فنؤدي الحق الذي أوجب الله علينا، ونسأل الله الحق الذي لنا ، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا جرى عليه سلف هذه الأمة .
وقيّد -رحمه الله - الطاعة بالمعروف ،فإن أمروا بمعصية فلا طاعة حيث يقول : إن أمر – الحاكم – بمعصية فإنه لا طاعة له ،لأنه هو نفسه عبد لله ،مأمور لله ،فكيف يأمر بما يخالف أمر الله ؟ نقول : ربنا وربك الله، ولا طاعة لك في معصية الله أبداً.
ويبيّن الشيخ – رحمه الله – أن طاعة الحاكم ليس في الواجبات فقط، بل حتى في المباحات من الأمور تجب طاعته إذا أمر بها ،حيث يقول : ويظن بعض الجهال القليلي العلم، الضعيفي الإيمان ،أن الحكومة لا تطاع إلا فيما أمر الله به!! وهذا ظن فاسد، لأن ما أمر الله به يجب علينا فعله إذا كان واجباً، سواء أمرت به الحكومة أم لا، ولأنا لو قلنا: إن الحكومة لا تطاع إلا فيما أمر الله لم يكن بينها وبين عامة الناس فرق في الطاعة، وولي الأمر له شأن خاص، إذا أمرك بأمر صار واجباً، وهذا الفرق بين ولي الأمر، وبين سائر الناس.
الفرع السابع : تصرفات الحاكم وكونها وفق المصلحة:
قرّر الشيخ -رحمه الله - أن الحاكم والوالي وكيل الناس على أنفسهم، كما أنه نائب عن الله في الخلق، بمعنى أن الله جعل الحكّام يقيمون شريعة الله في عباده ، ومن المقرر عند أهل العلم أن تصرفات الوكيل، والولي، والوصي منوطة بالمصلحة ولذلك يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: الخليفة أو الحاكم وكيل الناس على أنفسهم، يقيمونهم، ويهذبون أخلاقهم، ويتبعوهم على شريعة الله، فهم نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوس العباد وحيث أن الشعب مثلاً وكّلَ هؤلاء الحكام على نفسوهم، كأن الشعب قال : كونوا لنا حكاماً لتقيمونا، وتعدلوا على شريعة الله.
وبيّن أن تصرفات الحكام يجب أن تكون وفق شريعة الله ،وإقامة العدل ،ونبذ الظلم، فقال : أمّا ما يجب على الرعاة والولاة للرعية فأمر عظيم، ومسؤولية كبرى، يجب عليهم أولاً إخلاص النية لله تعالى بأن يقصدوا بتصرفاتهم، وتدبيراتهم تنفيذ أحكام الله، وإقامة العدل وإزالة الظلم ،وتطبيق ذلك بحسب استطاعتهم، وأن لا يستعملوا سلطتهم في تنفيذ أهوائهم ،وإشباع رغباتهم بلا حق .).
الفرع الثامن : نصيحة الحكام وزيارتهم :
إن من أبرز المعالم السياسية في حياة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- حرصه التام على ربط العلائق بين العالم ،والحاكم ،علاقة مبنية على الاحترام ،وتقدير المسؤولية المناطة على العلماء، والحكام ،لا من أجل الحضوة بمتاع من الدنيا زائل ، ولهذا فإنَّ من يعرف الشيخ يجده مقدِّراً للحكّام ،حريصاً على الاتصال بهم ،واستقبالهم، والتشاور معهم في ما يستجد من أمور، ولم يك يوماً معنفاً، أو مؤلباً، أو منتقداً، وإذا أراد أن ينتقد أمراً فيتكفي بالزيارة اللطيفة، أو المهاتفة المناسبة .
كقوله رحمة الله : وأما النصيحة لأئمة المسلمين فهو صدق الولاء لهم، وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها، ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع، والطاعة لأوامرهم ،ما لم يأمروا بمعصية.
ويقول أيضاً : إن من حقوق الرعاة على رعيتهم أن يناصحوهم، ويرشدوهم، وأن لا يجعلوا من خطئهم إذا أخطأوا سلماً للقدح فيهم، ونشر عيوبهم بين الناس، فإن ذلك يوجب التنفير عنهم، وكراهتهم ،وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقاً، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم، وإن من الواجب على كل ناصح، وخصوصاً من ينصح ولاة الأمور أن يستعمل الحكمة في نصيحته ،ويدعوا إلى سيبل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، فإذا وجد ممن ينصح من ولاة الأمور قبولاً للحق، وانقياداً له فذلك, وإلا فليتثبت في الأمور ،وليتحقق من وقوع الخطأ منه، وإصراره عليه، ثم ليرفعه إلى من فوقه إن كان في ذلك مصلحة ،كما كان السلف يفعلون.
وقد بيّن -رحمه الله- أن المناصحة تكون مشافهة إذا أمكن، أو بالمكاتبة، أو بالوساطة يوسّطون من يتكلم مع السلطان إذا كانوا لا يستطيعون، ومن المناصحة تأليف القلوب على ولي الأمر، وأن يبتعد عن كل ما يوجب النفرة منه، والحقد، والعداوة. لأنه ليس من النصيحة للإنسان أن تملأ قلوب الناس عليه حقداً، وعداوة، والدعاء لهم أمر مهم في مناصحتهم.
ولما تحدث عن قصة دخول أبي مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان علّق قائلاً :جرأة السلف على مجابهة الملوك ،والخلفاء ،ومن دونهم وهي جراءة صريحة ليست جراءة من وراء الجدران، ومن بعاد الفيافي ).
كأنّه ينتقد الذين يجهرون بأخطاء الحكام من بُعْدٍ، واستتار، ولا يستخدمون الطريقة الأمثل، وهي المناصحة المباشرة، وبهذا يعلم خطأ التشهير على الولاة في المنابر، ووسائل الإعلام، والمنشورات ونحوها .
الفرع التاسع : حكم قتل الحاكم :
إن قتل الإنسان معصوم الدم عمداً يستوجب القود، أو الدية باختيار الورثة، لقوله عليه الصلاة ،والسلام (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ...) الحديث
لكنّ قتْل السلطان أمر أعظم من ذلك، وأشد، لما فيه من إضاعة الأمن، وخراب الدولة، وإشاعة الفساد، وتشجيع الجريمة، والمجرمين ،لذلك يقول ابن عثيمين -رحمه الله- : إن قاتل السلطان يجب أن يعامل كقطاع الطريق، فلا يرجع فيه إلى الورثة، بل يجب قتله، لأنّ فساده عام .
ولمّا سئل عن الذين يقتلون الحكام لأنهم لا يحكمون بشريعة الله، ويقولون هم كفار!!
قال : لا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن بذلك، فإذا قتلوا الولاةَ يُقتَلون . هذا هو الحكم فيهم ،فقد يكون عند الولاة تأويل.
المعلم الثاني : الحقوق والواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم :
الفرع الأول : الحقوق الواجبة على الحاكم للمحكوم :
أوضح- رحمه الله - أن الولاية، والإمارة مسؤولية عظيمة، ليست لبسط النفوذ، ونيل المرتبة ،إنما هي لإقامة الحق بين الخلق، ونصرة دين الله وإصلاح الناس دينياً ،ودنيوياً، وتطبيق أحكام الله، والعدل بينهم، والحرص على استتباب الأمن، والقضاء على الفوضى ،حيث يقول -رحمه الله- :
أمّا حقوق الرعية على ولاتهم فالمسؤولية كبيرة، والأمر خطير، فليس المقصود بالولاية بسط السلطة ،ونيل المرتبة، إنما المقصود بها تحمل مسؤولية عظيمة ،تتركز على إقامة الحق بين الخلق بنصر دين الله، وإصلاح عباد الله دينياً ،دنيوياً، فيجب على الولاة صغاراً وكباراً إخلاص النية لله سبحانه، والاستعانة به على جميع أمورهم، على ما حملوا من هذه الأمانة وعليهم أن يطبقوا أحكامه سبحانه بحسب استطاعتهم على الشريف، والوضيع، والقريب والبعيد، لا يحابوا شريفاً لشرفه، ولا قريبا لقربه، متمشين بذلك على ما رسمه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث قال معلناً ومقسماً وهو البار الصادق بدون قسم : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ثم أخبر أنه بذلك يستتب الأمن، ويحصل التآلف، وإلا تحصل الفوضى، والتنافر.
وذكر -رحمه الله-: أن من واجبات الأئمة إقامة الأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر والجهاد، والحج، والجمع، والأعياد ،وتنفيذ الحدود الشرعية.
الفرع الثاني : الحقوق الواجبة على المحكوم للحاكم :
بيّن رحمه الله الحقوق الواجبة لكل حاكم على رعيته ،فقال في إحدى خطبه : أما حقوق الولاة على رعيتهم فهي النصح، والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، بسلوك أقرب الطرق إلى توجيههم ،وإرشادهم، وكذلك من حقوقهم السمع و الطاعة بامتثال ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه ،ما لم يكن في ذلك مخالفة لشريعة الله، فإن كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فلا سمع ولا طاعة .
ثم قال مبيناً طاعة ولاة الأمر :
إن من طاعة ولاة الأمر التي أمر الله بها أن يتمشى المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة، فمن تمشى على ذلك كان مطيعاً لله ،ورسوله، ومثاباً على عمله ،ومن خالف في ذلك كان عاصياً لله، ورسوله، وآثماً بذلك.
ومن حقوق الولاة على المحكومين نصرتهم في حروبهم على البغاة، وقطاع الطريق إذا امتنعوا عليه.
المعلم الثالث : طريقة الحكم ، ومقصوده، وسياسة البلاد :
بيّن ابن عثيمين- رحمه الله- أن الحكم لا بد أن يكون بشريعة الله، وبما أنزل الله، وهو دين الإسلام ،وأن ذلك هو الأحسن الذي لا حسن سواه ،حيث يقول : إنه لا عزة ولا كرامة، ولا انتصار إلا بالقيام بالدين، وتحكيم الكتاب، والسنة ،وتقديمهما على جميع النظم، والقوانين ، فإنه لا نظام أقوى من نظام الإسلام ،ولا حكم أحسن من حكمه، لأنّه حكم الرب العلي الحكيم الرحمن الرحيم .
لا أحسن من تطبيق الإسلام في الأمور السياسية، والأمور الاقتصادية، والأحوال الاجتماعية، والأحوال الشخصية ،والحدود الجنائية ،فتطبيقه صلاح العالم في جميع الأحوال. وقد بيّن – رحمه الله – أن الولاية، والإمارة ليست مقصودة لذاتها من بسط النفوذ، ونيل المرتبة ،إنما هي لإقامة الحق بين الخلق ،ونصرة دين الله، وإصلاح عباد الله دينياً، ودنيوياً، وتطبيق أحكام الشريعة بالعدل ، والإنصاف.
كما أوضح أن من مقاصد الحكم إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضبط الأمن والجهاد، والحج ،والجمع، والأعياد، وتنفيذ الحدود الشريعة، وتولي بيت المال.
وأما سياسة البلاد فتكون بإعمار الأرض، وإصلاح أمور الدنيا خدمة للدين، وتقسيم المال ،ومعاقبة المجرمين، والمعتدين، وصرف الثروات لمستحقيها.
المعلم الرابع : التعامل مع أهل البغي والفساد :
غالباً ما تعيش الدولة الإسلامية في داخلها الأمن، والاستقرار بفضل الله أولاً، ثم بإقامة وتحكي شريعته من قبل الحكام المسلمين ثانيا، ولكن قد يطرأ على هذا الحال ما يكدر الصفو، وينكد العيش، من خلال خروج فئة من المسلمين، وحملهم السلاح على ولي أمر المسلمين، وسلطته بحجة تأويل قد يكون سائغاً ،فيشقون عصا الطاعة ،ويعلنون التمرد والخروج من دائرة الطاعة ،والتبعية، وربما يصل الأمر بهم إلى الفساد والإفساد في الأرض، ولقد بذل ابن عثيمين- رحمه الله - في معالجة هذا الأمر بذلاً مباركاً، وذلك من خلال توجيهه لشباب المسلمين للحذر من هذه المزالق، حيث قال لمن سأله عن صحة ضابط الخروج على الحكام، وأنه إذا كان فاسقاً، ووجدت المقدرة على الخروج، فيجوز الخروج!! قال : هذا ليس من مذهب السلف في شيء، فالسلف متفقون على أنه لا يجوز الخروج على الأئمة أبراراً كانوا أو فجاراً ، وأنه يجب الجهاد معهم، وحضور الجمع، والأعياد التي يصلونها هم بالناس .
ثم حذّر من هذا المزلق فقال : إن الذين يخرجون على الحاكم لأمر ديني ،ودنيوي هل سيغيرون الحال إلى الأحسن ؟ بل إلى الأسوأ جداً ،وانظر إلى الدول كلها تجد أنها تحولت إلى الشيء نفسه .
ثم قال : وأنصح طلاب العلم الذين يقولون هذا بأن يتقوا الله في أنفسهم ،لا يغروا المسلمين، غداً تخرج الطائفة ثم تحطّم ،أو يتصور عن الملتزمين تصوراً غير صحيح، وردّد قائلاً : إياكم إياكم ، احذروا الفتن ،البلاد- والحمد لله –آمنة، ومطمئنة ،كل يتمنى أن يعيش فيها ... ونحن لا نشك أننا ،وحكامنا مقصرين، لكن إلى الله المشتكى.
وتحدّث -رحمه الله- في خطبته يوم الجمعة التالية لتفجير الخبر يوم الأربعاء العاشر من شهر صفر من عام 1417هـ مبيّنا خطورة ذلك العمل ، وماحصل من جرّائه من أمور منكرة، من قتل للمسلمين، والمستأمنين معصومي الدم , وإتلاف الممتلكات، وترويع الآمنين ، ودعا إلى الإمساك بهم، ومحاكمتهم وفق شرع الله سبحانه، وبيّن أن ذلك لايمثل دين الله، وإنما يمثل فئة ظالمة جاهلة.
المعلم الخامس : الشورى : ذكر ابن عثيمين- رحمه الله- فوائد عدة من أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه، معلقاً على كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-: إنه لا غنى لولي الأمر من المشاورة : فقال :أمرالله نبيه بالمشورة لعدة أمور :
أولاً : لتأليف قلوب أصحابه ،حتى لا يقولوا إن الرجل استبد برأيه .
ثانياً : ليقتدي به غيره من الولاة، وغيرهم .
ثالثاً : ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل به الوحي .
وبيّن -رحمة الله- أنه لا بد أن يستشار من فيه صفتان : الأمانة والرأي.
وبيّن نوعية المستشارين ،وأنها بحسب نوع المشورة ،فقال : ففي الأمور الشرعية يستشار أهل العلم الشرعي، وفي الأمور الحربية يستشار أهل العلم بالحرب، وفي أمور الصناعة يستشار أهل العلم بالصناعة ، وفي أمور الزراعة يستشار أهل العلم بالزراعة ، وهكذا لأن كل أحدٍ يدرك مالا يدركه الآخر.
يتبع ..