لعل من أشد ما يصد الناس- عموماً مسلمهم وكافرهم - عن إتباع شرع الله والالتزام بأحكامه تلك الشبهة الشيطانية التي انطلت على كثير منهم وهي: أن الإيمان بالله وطاعة الرحمن يعمر الآخرة ويهدم الدنيا، أو على الأقل الإيمان لا يعمر دنيا الناس إنما يعمر آخرتهم فقط، فاستطاع شياطين الإنس والجن بهذه الشبهة أن يرهبوا الناس أنهم إن اتبعوا الهدى من الله فإنهم سيخسرون دنياهم وأموالهم وتجاراتهم وغيرها، مستغلين بذلك الميل البشري تجاه الدنيا وضعفهم نحو زينتها كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ} [آل عمران:14]، فالدنيا بزخرفها وزينتها أعظم ما حمل الكفار على الكفر بالله كما قال تعالى: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيد} [إبراهيم:2-3]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأنعام:130].
وهي السبب الرئيس في حمل من آمن بالله على الردة والكفر بعد الإيمان كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:106-107].
فالخوف من ذهاب الدنيا وذهاب السلطان، والخوف من ضياع الأموال والتجارات حمل أكثر الناس على الكفر بالله أو التفلت من أحكام الشرع.
فالدنيا معبودة أغلب الجماهير كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» (رواه البخاري). فهي نقطة ضعف كثير من الناس، فاستغل شياطين الإنس والجن هذا الضعف فخوفوهم على محبوبتهم ومعبودتهم "الدنيا".
فجاء الرد القرآني على هذه الشبهة الشيطانية، فما من شبهة يلقيها الشيطان وأتباعه على الحق وأهله إلا وتجد الرد عليها في كتاب الله ولا بد، علمه من علمه - وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء -وجهله من جهله، فيقول تعالى في الرد على تلك الشبهة في سورة النساء بعد أن أمر بتقواه وطاعته قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134].
يقول ابن كثير في تفسيره: أي: يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، أعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك، ثم قال بعد ذلك: فإن قوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة، أي: بيده هذا وهذا، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس، وعدل بينهم فيما علمه فيهم، ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا؛ ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. اهـ.
يقول سيد قطب في تفسيره: ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها، إلى أن فضل الله أوسع- فعنده ثواب الدنيا والآخرة-وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها؛ وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة.
وإنه ليكون من الحمق-كما يكون من سقوط الهمة-أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً, وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعاً؛ وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي؛ ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام؛ بينما هو يملٌك أن يعيش كالإنسان! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء، وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى. اهـ
فيا من تريد الدنيا وثوابها فاعلم إن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة، وبإمكان الإنسان أن ينال ثواب الدنيا والآخرة بالإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال أيضا جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، وقال على لسان رسوله نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12]، وقال أيضاً على لسان رسوله هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52]، وهذا وعد من الله لا يتبدل ولا يتخلف وتاريخ أمة الإسلام يشهد بذلك، فعندما كانت الأمة ملتزمة بشرع الله ومعتزة بالله نصرها الله وأعزها وملكها الدنيا وكانت خير أمة أخرجت إلى الناس، فالسر يكمن في مدى يقيننا بالله والتزامنا بشرعه والتوكل عليه، وبذلنا للسبب، فمن السفه أن الإنسان يستطيع بعمل واحد أن ينال أو يكسب شيئيين وبرمية واحدة أن يصيب عصفورين، ثم هو يأبى إلا أن ينال بعمله الواحد شيئا واحداً وما ذاك إلا لجهله أو عناده أو تصديقه لإملاءات شياطين الإنس والجن.
وكذلك يقول تعالى في رده على كفار قريش عندما تلكؤوا عن الإيمان بحجة خوفهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:57]، يقول سيد قطب في تفسيره عند هذه الآية {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}:
فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس، وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله، ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطهم لتبدلت نظرتهم للقوى، ولأختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه؛ وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهماً وليس قولاً يقال لطمأنة القلوب، إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن إتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة، فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي أرتضاه له، والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد في واقع الحياة.
إن هدى الله منهج حياة صحيحة-حياة واقعية في هذه الأرض-وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية، وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة، إنما هو يربطهما معاً برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض، ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها، بشرط إتباع هدى الله، والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة، أمانة الخلافة في الأرض تصريف الحياة. وإن الكثيرين ليشفقون من إتباع شريعة الله والسير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان، وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم، فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا ً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا}
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكًن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
{وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة، ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله. اهـ.
فيا أيها التاجر المسلم المرهوب الخائف من الالتزام بشرع الله بحجة الخوف على تجارتك أعلم أن الخير كل الخير في أتباع شرع الله والبركة كل البركة في اتباع هديه قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، ويدل على ذلك الهزة الاقتصادية الأخيرة التي جعلت العالم يدخل في كساد عالمي ويخسر المليارات بمحق البركة، فما جنوه بسنوات طار بلحظات أو أيام.
ويا أيها الطالب المسلم الذي خوفوك من الالتزام بدينك خوفاً على تحصيلك العلمي ومستقبلك، اعلم أن دينك لا يخالف التحصيل العلمي المباح يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [تبارك:15]. وهذا هو تاريخ علمائنا السابقين يشهد بذلك.
ويا أيها المسلم الصائم العامل لا تُخدع بقولهم أن الصيام يضعف الإنتاجية، فاعلم أن البركة التي ينزلها الله في عملك إن اتقيت الله هي أضعاف ما يجدها العامل المخالف لربه في فطره في شهر الصوم، وليس الشأن كثرةٌ في ساعات العمل بل الشأن كل الشأن هي البركة التي يطرحها الله في العمل.
فكم من إنسان يعمل ساعات قليلة يبارك له فيها خير من إنسان يعمل الليل والنهار، فهذه هي الكلاب, نرى الأنثى منها تضع في العام مرة أو مرتين في كل مرة أربع جراء أو أكثر ولا تجد لها وجودا كثيراً في الطبيعة، بينما انظر إلى الغنم تضع الأنثى منها في العام مرة واحدة -في الغالب- في كل مرة شاة أو شاتين وانظر إلى عددهم الكثير في الطبيعة، مع إن أغلب الناس يأكلون لحم الغنم، وما ذاك إلا للبركة التي أنزلها الله تعالى في الغنم فبارك فيها وكثرها.
ويا أيها الحاكم المسلم المريد لتطبيق شرع الله.. أقدم إلى ما أردته ونويت به وأعلم إن الذي حفظك وحمى بلدك وأنت بعيد عن شرع الله قادر على أن يحفظك ويحفظ بلدك واقتصادك بعد تطبيق شرعه والعودة إلى دينه كما قال تعالى لكفار قريش كما مر بنا أنفاً.
وأخيراً... فقد يقول قائل: كلامك جميل ولكن يخالفه الواقع! فهؤلاء الكفار من الأوربيين والأمريكان وغيرهم مع كفرهم فهم قد ملكوا الدنيا وتمكنوا فيها، فكيف يكون ذلك؟ فأقول هذا صحيح، وهذه شبهة تحتاج إلى رد مفصل ولكن باختصار:
إن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الآخرة إلا من يحب، والدنيا لها سنن وقوانين وأسباب مادية من أخذ بها نالها وفاز بها بإذن الله تعالى، كما قيل في الأمثال:من جد وجد، ومن زرع حصد... الخ، والله تعالى لا يظلم أحدا فمن أراد الدنيا وسعى لها سعيها أعطاه الله منها بما يشاء الله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ .أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16]، وقال تعالى أيضا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18].
فهم -أي الكفار المعاصرين- قد أخذوا وبذلوا الأسباب المادية وجدوا واجتهدوا في نيل الدنيا وتخاذلنا نحن وتركنا الأسباب الشرعية والمادية، فأعطاهم الله تعالى عدلاً منه وحرمنا نحن.
وأيضا الله تعالى قد يعجّل للكافر طيباته في حياته الدنيا حتى إذا جاء يوم القيامة لم يجد شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وقال تعالى أيضاً: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]، وجاء في حديث عمر بن الخطاب عندما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى في بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ في بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسًا وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ مُتَّكِئًا. فَقَالَ: «أَوَفي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (رواه البخاري).
وكذلك قد يكون ذلك استدراجا من الله ومكرا بهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44-45]. اهـ.
فلابد من الإيمان بالله والعمل الصالح ثم بذل الأسباب المادية -التي يدعو إليها الإيمان بالله- لنيل خيري الدنيا والآخرة.
والله تعالى أعلى وأعلم.
خالد بن صالح الغيص - 21/10/1430 هـ