الكاتب حمود الكثيري : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد، قال البخاري:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: “جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ” فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ “نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟”.
-إسناد الحديث :
· محمد بن سلام :ابن الفرج الأسلمي مولاهم أبو عبد الله أو أبو جعفر البخاري البكندي ويقال الباكندي من العاشرة (ت227)ثقة ثبت لم يخرج له من الستة إلا البخاري.
· أبو معاوية:هو محمد بن خازم التميمي السعدي أبو معاوية الضرير الكوفي مولى سعد بن زيد مناة بن تميم من كبار التاسعة (ت195)،وقد رمي بالأرجاء ،ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره .
· هشام بن عروة : هو ابن الزبير بن العوام الأسدي رضي الله عن جده ،ثقة فقيه ربما دلس من الخامسة (ت145 أو 146) أخرج له الستة .
· عروة بن الزبير:بن العوام الأسدي ثقة فقيه مشهور من الثالثة (ت94) أخرج له الستة.
· زينب بنت أم سلمة :هي بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزمية ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم (ت73)صحابية رضوان الله عليها أخرج لها الستة .
· أم سلمة :هند بنت أبي أمية المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية ،أم المؤمنين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة . أخرج لها الستة .
- مسائل متعلقة بالإسناد :
· رواية الأقران: فيه رواية صحابية عن مثلها وتابعي عن مثله .
· فيه رواية الأبناء عن الآباء :رواية البنت عن أمها رضي الله عنهما .ورواية هشام عن أبيه .
· الإسناد فيه العنعنة والتحديث .
- معاني المفردات :
· (احتلمت) :أي رأت في منامها أنها تُجامع .
· (تربت يمينك):أي افتقرت وصارت على التراب وهي من الألفاظ التي تُطلق عند الزجر ولا يراد ظاهرها مثل (ثكلتك أمك ).
-المسائل المستفادة :
· إثبات صفة الحياء لله جل وعز:
قال الحافظ ابن حجر
إن الله لا يستحي عن الحق):أي لا يأمر بالحياء في الحق .
قلت : وهذه زلة خطيرة وتأويل مكشوف جرى فيه الحافظ على جادة الأشاعرة في تأويلهم لصفات الرحمن ؛قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على الفتح : الله يوصف بالحياء الذي يليق به ولا يشابه في خلقه كسائر صفاته ،وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة ،فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به وهذا هو قول أهل السنة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة وهو طريق النجاة ،فتنبه واحذر والله أعلم .اهـ([1])
· الحياء في طلب العلم والتفقه في الدين مذموم:
قال مجاهد:لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِر، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: “نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ ([2]) .
قلت : فالحياء الذي يكون سبباً لترك طلب العلم والتفقه في الدين أو ترك فعل أمر شرعي هو حياء مذموم،وليس هو ذاك الحياء الذي يكون من الإيمان وإنما هو ضعف ومهانة.
وعن الحياء الشرعي الممدوح يقول العلامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله-:الحياء خلق عظيم وشعبة من شعب الإيمان، وصاحب الحياء يحجزه الحياء من أن يرتكب معصية الله؛ يحجزه الحياء من أن يقع في الأخلاق الدنيئة؛ الحياء خلق نبيل وخلق عظيم لابد أن يتخلق به الإنسان؛ فإنه من أعظم الروادع للإنسان أن يرتكب معصية أو يقع في خلق دنيء، لهذا قال الأنبياء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ( إنَّ مِما أَدركَ الناس مِن كلام النبوة الأولى إذا لم تَستحِ فاصنع ما شِئتَ )، الذي يقع في الشرك لا يستحي من الله، المبتدع لا يستحي من الله ولا يحترم هذه الشريعة التي شرعها الرسول عليه الصلاة والسلام، والفاسق عنده خلق دنيء وفيه عدم الحياء من الله.فالحياء لا بد منه -يا إخوان- ولابد من نبذ الأخلاق الرديئة، تعلموا هذه الأشياء وطبقوها في حياتكم -بارك الله فيكم-([3])
· لا غسل من الجنابة بشك (اليقين لا يزال بالشك) :
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن لا غسل من شك فلما سألته الصحابية : هل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ أجابها صلى الله عليه وسلم : إذا رأت الماء ،دل على أنه لا يُكتفى بالمنام (القائم مقام الشك) بل لا بد من وجود الماء (القائم مقام اليقين) ،وهي حتى لو لم تحتلم ووجدت الماء لزمها الغسل كما ورد هذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله عنها قالت
( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال: يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللا قال: لا غسل عليه قالت: أم سلمة يا رسول الله هل على المرأة ترى ذلك غسل قال :نعم إن النساء شقائق الرجال))([4])،وفي إرشاده صلى الله عليه وسلم ترسيخ للقاعدة الفقهية (اليقين لا يزول بشك) فالأصل واليقين عدم الجنابة فلا يُنتقل عنه إلا بيقين مثله.
· جواز استشكال الفتوى لغير المستفتي :
بوب البخاري في كتاب العلم باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه وأرد تحته حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :من حوسب عذب ،قالت عائشة :فقلت :أوليس يقول الله تعالى :{فسوف يحاسب حساباً يسيراً} قالت: فقال: إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك. ففي هذا الحديث الذي معنا أن غير السائلة راجعت حتى تستفهم فدل على جوازه.
· دليل من دلائل النبوة:
في قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم سلمة :أو تحتلم المرأة ؟ قال:نعم تربت يمينك فيما يشبهها ولدها)).
دليل على أن الولد إذا شابه أمه فبسبب ماءها وقوله في رواية هذا الحديث عند مسلم من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه عن أمه أم سليم : ((أن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه )).
وفي زماننا هذا قال أهل العلوم الحيوية:أن الحمض النووي (DNA) والموجود في مني الرجل والمرأة يحمل صفاتهما وينقلها إلى الجنين الذي يتكون بعد تلقيح الحيوان المنوي الموجود في مني الرجل للبويضة الموجودة في مني المرأة بقدرة الله وتقديره ،وهذا أمر تم اكتشافه منذ زمن ليس بالبعيد ،فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه المعلومة ؟!في ذلك الزمان الذي لا توجد فيه مختبرات طبية ولا معامل علمية ؟ ! هو وحده العليم بكل شيء أوحى إلى عبده ما أوحى .
—————–
[1] فتح الباري (1/486).
[2] علقه البخاري قبل هذا الحديث .
[3] شريط شرح وصايا لقمان الحكيم لابنه التي وردت في القرآن.
[4] أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الإمام الألباني رحمه الله.